أم ميلاد
هكذا بكل بساطة تسللت ام ميلاد من اعماق الذاكرة . . . دحرجت كل انواع الحجارة التي شقعتها فوق ذكراها وانتصبت عالية كالقيامة . . . نفضت ختم القمقم الذي كنت قد حبستها واخاها “ابو سمير” فيه منذ عقود وعقود. . . منذ ان وطدت العزم على خنق كل شعاع ذكرى ينوس من تلك الناحية . . . فما نفع هذه الصغائر إذا كانت البلاد كلها قد ضاعت والهزيمة تتعمق عقدا إثر عقد إثر عقد . . . ولكن اليوم عادت ام ميلاد قفزت فوق المسافات وفوق السنين. عادت مع ذبالة شمعة تضاء في هذا الركن القصي من العالم الذي يبعد آلاف آلاف الأميال عن مكانها
* * * * *
ولام ميلاد حكاية جيء بها مع القادمين من القدس القديمة في منتصف الخمسينات حيث كان يلتقي فلسطينيو المنافي بأهلهم الذين بقوا تحت الاحتلال مرة كل عام في موسم الاعياد يتبادلون الاشواق والحنين وأطرف المستجدات . حملتها امي وامثالها عبر بوابة “مندلبوم”. ودار لغط في مجتمع الكبار يومها حول قصتها فيما كنا نحن الصغار نتلقف الخبر ونعتز بأم ميلاد وندعي قرابة بيننا وبينها لنتشرف ببطولتها. وينقل بعض منا انتقاداً يكون قد سمعه من والديه يستنكر تهورها وحماقتها .
كانت أم ميلاد تتمرد على تجاهلي لها بين الحين والاخر وتقفز كزلة لسان افخر بها وارويها لصغاري في ليالي القصف والعتمة، إلا انني قاومت تمردها ونجحت في قمعها بعد اجتياح بيروت وما اعقبه مما سميّ بحرب المخيمات . حبستها في قمقم وختمت عليها بخاتم سليمان. . . وها هي اليوم تنفض قمقمها وتنتفض قبالتي متراقصة مع تراقص ضوء الشمعة المضاءة في “بلمور بارك”, احدى حدائق سدني العامة, احياء لذكرى قريتها والقرى المماثلة التي ازيلت من الوجود قبل خمسين سنة
وام ميلاد يومها امرأة في مطلع الثلاثين. حتما هي امرأة سمراء متوسطة القامة ولا بد ان يكون في عينيها بريق عنفوان وكرامة . . . كما أنّها واحدة من الذين بقوا تحت الاحتلال بعد النكبة، وهي مثلها مثل اللآلاف الذين أُجبروا على إخلاء قراهم الحدودية وأمسَوا لاجئين في وطنهم.
* * * * *
لجأت ام ميلاد مع عائلتها الى قرية لا تبعد الكثير عن قريتها كفربرعم . . . رفضت النزوح الى حيفا او عكا كما فعل الكثيرون. بقيت في الجش اقرب ما يمكن للقرية الغالية
ـ أريد ان اشم ريحة هوا الوادي والكرم . . . أريد ان اكون اول العائدين عندما تحين العودة.
سعى زوجها والكثير من اقاربها لاقناعها بالنزوح، ولو الى صفد، حيث فرص العمل أفضل فما نجحوا .
ـ هنا نبقى نشتم نسيم القرية الغالية.
ول”أبو طنوس”، والد ام ميلاد، في كفربرعم كروم زيتون تقول عنها انه اطيب زيتون بالعالم كله
وفي موسم الزيت والزيتون كانت ام ميلاد تتحسر على زيتونات والدها فتقول
ـ باطل ! ! . . . بنت ابو طنوس تشتري زيت وزيتون . . . يحرم علي ّ الزيت والزيتون اذا ما كانوا من زيتونات الكرم
ـ كبري عقلك يا امرأة . . . اليهود نصبوا سياجا حول الكرم منعوا أيا كان من الدخول اليه. . . ممنوع ممنوع . . . العين لا تقاوم مخرز
ـ عين الحق أقوى من المخرز
ـ هذي حكومه , انت تريدين ان تقاومي حكومه
ـ ومن حكّمها على رزقنا ومالنا وحلالنا ؟! ! . . .
ـ ابعدي هذه الفكرة من راسك . . . الله يكفينا شرّهم
* * * * *
وفي فجر يوم تشريني شاحب، كانت ام ميلاد تغذ الخطى وحيدة من “الجش” إلى “كفربرعم” ومع انبلاج الصباح كانت في كرم الزيتون الذي طالما تسلقت زيتوناته طفلة، مداعبة أمها حيناً بتجاهل نداءاتها قصد ايهامها ان سوءاً أصابها، ومغافلة أخاها طنوس حيناً آخر برشقه بالحصى. . .
تحت هذه الزيتونة التي قال والدها ان عمرها يزيد على ثلاثمئة سنة، تفيأت أول مرة أحست فيها آلام المخاض . . . وحذاء هذه “التصوينة” حملت لخطيبها زوّادة الغداء عندما كان يساعد اهلها في القطاف فتقاسمت واياه لقمة “المجدرة” والبصل الاخضر. وفي هذا المكان نهرت اخاها طنوس الذي كان يسيء لاغصان الاشجار بالقفز من واحدة الى اخرى. أغاظته فتناول حجراً ورشقها به فاغمي عليها فراحت امه تكيل له الدعوات واستفاقت على صوت صهرها يقول : لا تخافي البنات بسبع ارواح . . .
وجاش بها الحنين لأيام عذاب فغمرها، على ما تقول شجن. وانطلق لسانها في موال مجرح حزين
يا زمن وقّف تا قضّي كل حسراتي
يمكن نسيت مين أنا
ونسيت آهاتي
يا حيف كيف انقضت بالغربة زماناتي
فتلقفت الصخور والحجارة واغصان الزيتون وحتى اعشاب القندول صوتها ورددت صداه في كل الاودية المحيطة والهضاب . . . كانت قد ملأت كيسها من حبات الزيتون الكبيرة الغالية على قلبها عندما انتصب امامها جندي بملامحه القاسية وبذلته الانيقة فكلمها بلكنة عربية ركيكة .
ـ شو عم تعملي هون يا مرى. . . يله اطلعي بره . . .
ـ انت شو عم تعمل هون ؟ ! . . . هذا زيتون ابي
ـ هذا من اليوم وغاد زيتون الحكومة . . .
ـ زيتون الحكومة! ! . . . اسم الله عليك وعلى حكومتك بنت امبارح ! ! . . . هذا زيتون ابي, ورثه عن جده، وجده ورثه عن جده عن عن عن . . . الى آخر ما الله يعلم
ـ قلت لك هذا زيتون الحكومة
ـ اي والله تعبت كتير حكومتك بسلامتها بفلح الارض وغرس النصب . . . حبيب امك ! ! . . . هذا زيتون متعوب عليه ومنصوب قبل ما حكومتك تخلق بمئات السنين
لم يحر صاحبنا جوابا وما بان على قسماته اي انفعال بل تناول كيس الزيتون من يدها ونهرها . . . اطلعي بره
انتصبت ام ميلاد حتى كادت قامتها تطاول شجرة الزيتون! واشرأب عنقها، ولمع بريق غريب في عينيها
ـ هذا زيتون ابي وانا احق به من كل الخلق الذي على وجه الارض . . . لعنة الله عليك وعلى كل الحكومة
ـ تأدبي يا إمرأة . . . عيب هذا الكلام
ـ عيب ما انتم تعملون
ـ إسا احطك بالحبس
ـ شوف يا ابن الناس، إخزِ الشيطان ! . . هذا زيتون ابي . . . اعطيني الكيس واتركني امشي
* * * * *
ولم يدعها تمشي، بل قادها مرغمة الى مخفر الشرطة. وهناك قيل لها إما ان تدفع ثمن الزيتون او تدخل السجن
ـ باطل ! ! . . . أدفع ثمن زيتونات ابي ! ! . . . إحبسوني . . . احبسوني اشرف . . . ولكن والله العظيم وحق العدرا مريم , اول يوم اطلع فيه من الحبس امشي راسا على كفربرعم وأحوِّش الزيتون من كرم “ام النور”
* * * * *
لا تقول الرواية ماذا جرى لأم ميلاد بعد ذلك. . . ولكن ما حدث لأبنها البكر اثار الكثير من التساؤلات. امسى ميلاد يستدعى الى مخفر الشرطة يوما بعد يوم، وتُوَجّه له تهم لا علاقة لها بقطف الزيتون، فهو سارق يوماً، ومشاغب يوما آخر ومعتديٌ على الحرمات في ثالثة . . . الى ما في الجعبة من اتهامات مهينة راحت القرية تتداولها ويختلف الناس في شأنها، إلى ان ضاق الفتى المراهق بما يحاك حوله، ونفذ صبره، فلم يعد يقوى على احتمال النظرات الشكاكة في حقه. وفي احدى الليالي المدلهمة السواد تسلل عبر الحدود لينضم الى آلاف اللاجئين في بلاد المنافي. وحرمت أم ميلاد بكرها وامسى حزنها حزنين : ضاعت كفربرعم وضاع ميلاد