عين صابتنا
دخلت عالمنا على حين غرة، بعثرت ما كان معلباً من ثوابت ومعتقدات فوق رفوف وعينا منذ عهد عاد وثمود. . . بعد دخولها لم تعد الامور على ما كانت عليه. لماذا حصل هذا ؟ لماذا هفت قلوبنا الى كل حركة وكل ساكنة فيها؟ لست أدري. أبي يغضب وينهانا عن التفوه باسمها. أَخرِجوها من افكاركم. هي ضلالة وشر. ولكنها دائما بيننا أقرب من رفة الجفن وان كان لا يزال في انفسنا خشية من ان نلهج باسمها على الملأ. إلا انها كانت دائما بين أي اثنين منا تلاقيا على سمر .
كلنا مولود في استراليا. كلنا ترعرع في سدني بالذات. ولكننا في الحقيقة ما فارقنا جلود اجدادنا يوما. فخورين بحسبنا ونسبنا. نكن احتقاراً أخرس لهذه المدنيّة الغريبة عن نهجنا ووصايانا. قانعين بكل ما يرسمه لنا الأب فهو أدرى بمصلحتنا .
قضى رأيه، الذي لا يعلوه رأي، ان اكتفي من الدراسة بالشهادة الثانوية فلم اطمع بمزيد. لقد صور لي ان هذا يكفي للفتاة العاقلة بنت الاصول فرضيت. ما وعيت أمي إلا قابعة في مطبخها ولم ينته الى وعيّ أنه دار يوما في خلدها ان تقتدي بجاراتها او حتى ببعض بنات جاليتها فتسعى او حتى تطالب في نشاط خارج دائرة العمل المنزليّ. قانعة راضية باقتفاء أثر امها وجدتها في الانصباب على تأمين حاجياتنا وكسب شوط السبق في اتقان الأطيب والأكثر تعقيدا من أنواع الطعام. تحرص على تلبية طلبات كل فرد في الاسرة، لا تشكو ولا تتذمر ولا حتى يغريها ما حققته قريبتها بهية من امتياز على زوجها في الآونة الأخيرة. “سندي وتاج راسي ابو فيصل”.
من جهتي، ما طالبت يوما بالخروج الى العمل كمعظم زميلاتي . . . طلباتي الأساسية مؤمنة. تصطحبنيالوالدة إلى السوق كلما دعت الحاجة. خروجي من البيت منظم ومقنن، فما انا سجينة ولا في حل متروك لي الحبل على الغارب. قد أساهم في مساعدة إخوتي الصغار في بعض واجباتهم المدرسية أو اعمل “بابي ستر ” لأبناء خالتي عندما تدعوني الى ذلك ـ طبعا بدون مقابل ـ فالمقابل ما زال عيباً في قبيلتنا. نَعُّف عنه ظاهرياً حتى ولو تحلّبت أفواهنا شوقاً لملامسته . قد أذهب مع بنات الأعمام او الاخوال لمشاهدة مسرحية او فيلم كثر الحديث عنه ولكن بعد ان نُعِدّ لذلك اياما او حتى أسابيع، ونقدم عرضا مفصلا “للجهات المختصة ” عن الفيلم وموضوعه ومشاهده ومتى واين يعرض وكل التفاصيل المهمة وغير المهمة . لم يكن الامر ليزعجني فقد أسلمت له القيادة واستكنت هادئة البال بعيدة عن وجع الراس . رضخت لكل أوامره. ما أحسست غبناً ولا عنّ لي أنّ حالي خليقة بالشكوى . لا اذكر انني خدشت وصاياهم، وما جال بخاطري ابداً ان أتساءل، وماذا لو أكلنا لحماً يوم الجمعة؟!
. دخلت حياتنا . . . جاء بها اخي الاكبر زميلة في الجامعة. هكذا بدون مقدمات ـ كما يفسرـ
ـ حصل الامر بعفوية تامة . ما دعوتها ولا إشي . . . كنا في نقاش، سرقنا الحديث، ما حسينا ودرينا الا واحنا “كدام” الباب .
ـ وبدك ياني”اصدكك”! ! . . . وتدرس هندسة عمار كمان . . . مسترجله يعني . . . من “كلّة” ما حدا يردها . . . .هذي بنت فلتانه . . .
لا ! ! . . . لم تكن فلتانه . . . كانت ابنة عائلة محترمة متماسكة, نواتها اب وام وأطفال، والاب هو راس عشيرته دون منازع . كانت واحدة منا , لها نفس لون جلدتنا وغزارة شعورنا حتى انها تتكلم لغتنا الام بطلاقة افضل من اي واحد منا . . . اذهلتنا جرأتها . . . صدمتنا . . . لو كانت شقراء الشعر زرقاء العينين لكان الامر اختلف. لو انها ممن يرطنون في كلامهم . . . لو أنها مولودة في هذه الحضارة . . . لو انها من عائلة مفككة . . . لو انها تعيش بعيدة متمردة على أوامر القبيلة. لو لو لو ان فيها شيئا من هذا، لاختلف الأمر
أما ان تكون سمراء الجلدة، عسلية العينين، لم تاتِ الى أستراليا الا قبل سنوات لا تتعدى اصابع اليد الواحدة . . . ومن قرية لا تبعد سوى بضع مئات من الكيلومترات عن قريتنا، ففي الامر عجب.
تذهب الى الجامعة، تعود في ساعة متأخرة. اختصاصها مما هو مقصور في عرفنا على جنس الذكور، لها زملاء ذكور يزورونها وتزورهم في بيوتهم، فهذا مدهش وغريب!!
أعجب أخي الصغير بجدائلها الكثيفة المضفورة إلى الوراء وبعلّاقة المفاتيح الزئبقية التى لا تفارق يدها . وكانت امي تطلق شهقات خافتة وهي تسمعها تناقش هؤلاء الشبان (ابنها ورفاقه) حول حقوق الشاذين جنسياً، ومسألة الموت الرحيم . . . وكانت تعتريني دهشة وأنا اراها تقارع هؤلاء الرجال. كل واحد يفصل منها ثلاثة، فيعلو صوتها اصواتهم دون ان تحس ازاءهم باي دونية. تصر على رأيها، تحارب لإثباته دون مواربة او مجاملة كاذبة .
وانتهت زيارتها ليبدأ شيء ما داخل حظيرتنا. بدأ منطق والدي يبدو لامنطقياً. فأسواره التي قضى ثلاثين عاما في استراليا يحصّنها ويعلّي مداميكها طاولها اهتزاز . . . صرت أتساءل عن سر خنوعي . . . اصبحتُ اكثر تبرماً وتأففا. لماذا لا أكون مثلها؟. ها هي متألقة كزنبقة حقل، واثقة لا يجفلها زميل ولا تقعدها الاقاويل. ما همها ما يدور في ذهن الآخرين عنها، خائضة في هذه المدنية حتى الثمالة دون ان تخدش أنيابها الشرسة سوى القشرة المهترئة من أصالتها.
وما عادت الايام كسابقاتها. . .
قلت، أخرق بروتوكولهم وأرفض اصطحاب الجوقة الى الكنيسة هذا الأحد، فثارت ثائرته . . . ورأيتني اكسر الشر واذهب، إلا ان ذهابي هذه المرة كان مختلفا . . .
أصّر اخي على عدم تناول الطعام الذي أعدته والدتي، فعلا صراخه وراح يشتمنا جملة وتفصيلا. تهيب الصغير وسكت على مضض بعد ان وشوشت هي في أذنه شيئا ما . .وتساءلت أمي عن سبب قبوعها الدائم في البيت فأرغى وأزبد وكاد يصاب بذبحة قلبية فاستكانت ولكنها أصبحت بعدها دائمة التذمر والتشكي . . . لم تعد ترتب غرفنا عن رضى بل صارت تطلب منا بإصرار غاضب ان نقوم نحن بهذا العمل . . . اصبحت تنهرنا أذا ما طلبنا منها كوب ماء او كوب عصير .
كف “فيصل” عن الطلب إليّ أن أكوي له قمصانه. صار يُحضِّر سندويتشاته بنفسه كل صباح. . .
وضرب والدي كفا بكف وقال بصوت فجيعائي ناحب: “. . . عين صابتنا! ”