غاري يذهب الى المستشفى

غاري يذهب الى المستشفى


اتـّجهَ، بحكم العادة، الى المطبخ الصغير ليعد قهوته. تذكر فيما هو يده تمتد لتناول الحاجة، أنْ لا قهوة له هذا الصباح. الروزنامة المثبتة فوق الثلاجة ذكرته أنه التاسع من أيلول، موعده مع المستشفى، وهو أيضا اليوم الذي يحتفلون به بعيد الاب. بدعة ما استساغها يوماً حتى يوم كان له ابنة تأتيه بباقة زهور في المناسب

حلق ذقنه بتأن مطّول واطمأن على سلامة هيئته رغم الندوب الصغيرة التي تركتها ماكينة الحلاقة فوق بشرته. يده المضطربة هي المسؤولة عن هذه الندوب. حشا في حقيبة صغيرة بعض حاجيات لا بد منها خلال إقامته في المستشفى. لا يزال أمامه ثلاث ساعات على الأقل لمغادرة البيت. أدار جهاز التلفزيون، كان أوّل ما طالعه صورة السفينة “تامبا” التي تحمل طالبي لجوء ترفض السلطات استقبالهم. أثار المشهد استياءه. هو لا يفهم كثيرا بالسياسة والاقتصاد ولكنه لا يحب هذه المعاملة القاسية لآباء وامهات دفعهم اليأس الى تحمل المخاطر للوصول الى بلد ظنوه جنة الله على الارض. تذكر الوفود الكبيرة التي جاءت الى البلاد بعد الحرب العالمية الثانية. كان يومها يافعا وسرّه امتلاء الشوارع والمحلات بالحسناوات من كل جنس ولون ، كما سره بعد حين امتلاء الاسواق بأنواع جديدة ولذيذة من الاطعمة. انتقل الى قناة أخرى فمحت صورة “إيان ثورب” بطل استراليا وفخرها في دنيا الرياضة، ما تركته الصورة السابقة من اشمئزاز. هو يحب هذا الشاب،    He is a Digger Linda منذ  بدايات صعوده كان يقول لزوجته
.West Australia أسف لحال القرى التي ضربها إعصار الأسبوع الماضي في الولاية الغربية
  ولكنه أسف أكثر لأن شركات التأمين ترفض التعويض على المتضررين. تألم لمشهد الغابات التي سوّدتها الحرائق التي شبت في العاصمة كامبرا. عندما أطلت صورة رئيس الوزراء على الشاشة قال: Shame on you John. I will not vote for you again

قرر في اللحظة الاخيرة ان يتصل بحفيدته في الضاحية المجاورة، صحيح أنه لا يزال يتذكر بألم مشاجرتهما قبل سنوات، وما زالت ذكرى كلماتها تجعل جبينه يزداد تجعداً، لكنه الان على مفترق طرق: عملية جراحية كهذه ليست بالشأن البسيط. من يعرف الى اين سيخرج بعدها!. . . ربما الى خُشّة معتمة في “ركوود”!!. . . هزّ رأسه مستخفاً من تسرُّع الشباب، لو أنها صبرت قليلا لكان البيت الآن، بكل بساطة، لها. كلم نفسه قائلا:

– أتكون أخطأت يا غاري برفضك طلبها؟!…

كم أحبها وكم دللها. هي أيضا أحبته. لم يكن يبدو عليها أنها طماعة…كانت له تعويضاً عن الابنة التي رحلت باكراً، ولكنها ككل شيء في هذه العالم تركته لتتبع “روك ستار” مخبول. . . هو لم يرفض طلبها لأنه بخيل، ولكنه يصعب عليه ان يترك المكان الذي عاش فيه معظم شبابه ويذهب الى آخر لا ذكريات فيه ولا أحاسيس. آخر مرة زار قريبه “غرانت” في بيت المسنين أزعجته الرائحة المنبعثة من المكان وهيئ له ان نزلاءه واقفين في طابور ينتظرون دورهم الى المحطة الاخيرة إلى “ركوود”. . . كان يبدأ بتدوير الأرقام فوق القرص ثم يضع السماعة قبل الوصول الى الرقم الأخير، تماما كما يحصل في المسلسلات الدرامية الرخيصة. بعد عدة محاولات تغلب على تردده وانتظر رنين الهاتف لثواني خالها ساعات سمع بعدها صوت حفيدته ترجو المتصل ترك رسالة على آلة التسجيل. وضع السماعة وذرع المسافة بين غرفة الجلوس وغرفة النوم بخطوات متكاسلة أحس معها أنه كالجزيرة العائمة لا يرتبط بأي أرض، لا جذور له ولا جسور. . . أعاد تفقد حقيبته. تأكد للمرة العشرين أن بطاقة الضمان الصحي أل”Medicare ” وبطاقة ضمان الشيخوخة ورسالة دخول المستشفى في مكانها. ارتأى أن يزيد على محفظته بطاقة الإتمان. من يدري! . . قد يحتاج لبعض النقود. التفت الى الساعة المعلقة على الحائط، لم تصل بعد الى السادسة صباحاً. أغرته شجرة التفاح التي تطل من النافذة في النزول الى الحديقة الخلفية الصغيرة. شجرة التفاح هذه تزهو ببياض زهرها المفاخر كعذراء تفتحت أكمام انوثتها على حين غرة. هو يحب هذه الشجرة في هذا الوقت من السنة، يحب زهرها وعطرها اكثر مما يحب ثمرها الاخضر الصغير الذي تنافسه عليه الوطاويط. تذكر أيام كان يقف أمامها منتشياً يسأل زوجته ان تتطلع وتشاركه نشوته فيما كانت هي ترفع نظرها لتقول باقتضاب: جميل .. ثم تعود للانهماك في قراءاتها. تألم لذكرى تلك الزوجة الفاضلة التي تركته ورحلت قبل بضع سنوات، ولكنه تألم أكثر لأنها رحلت قبل ان يعرف إن كانت فعلا قد أحبته أم انها عاشت عمرها معه بحكم الفضيلة والواجب. . . تمنى لو أنها لم تكن كاملة. لو أنها كانت تخطئ وتغضب وتغار وتتصرف تصرفات صبيانية. حتى أنه تمنى لو أنها كانت خانته، لربما كان رأى من خلال هذه النواقص إجابة على سؤاله.

من فوق السياج بدت شجرة اللوز في حديقة جاره وادعة كابتسامة الملائكة. أحسها غانية تبادله الابتسام. انحنى فوق الارض واقتلع ما نبت من عشيبات طفيلية في مسكبة البقدونس التي بذرها الشهر السابق. غداً، عندما يعود، سوف يقصها ويأخذها هدية الى جارة لبنانية التي تسكن على بعد بضعة امتار من بيته لتعمل منها تبولة لعائلتها. هو لا يعرف الكثير عن جارته، يعرف أن لها طفلين متقاربين في العمر يسمع تصايحهما عدة مرات في اليوم ويعرف أيضا غسيلها المنشور فوق الحبل الذي يبهره نصوع بياضه. لن يحزن إذا رفضت هديته. لا. . . لن يغامر فربما أسمعته كلاماً قاسياً. سيترك لها البقدونس على عتبة الباب. أحس فراغاً عندما لم يركض اليه الكلب مداعباً. كان لا بد له ان يتخلص منه فما من أحد يرعاه في غيابه.

تذكر انه لم يضع ماء كولونيا في الحقيبة. فات أوان إصلاح الخطأ فعليه أن يكون في المستشفى قبل أن تفتح المحلات التجارية أبوابها. بعد العملية قد يكلف أحداً يشتري له واحدة. فكر. . . ماذا لو مر عليه أحدهم وقال له “الحمدلله على السلامة”؟. . . لذا، فمن الواجب ان يكون معه علبة حلو صغيرة للضيافة. عاد الى المطبخ، نبش خزانة المؤونة. قبل ان ييأس، حظي بعلبة بسكويت نصفها فارغ، ربت على غطائها مبتهجا ودسها بين باقي الاغراض. قاربت الساعة على السابعة، لن يطلب تاكسي كما كان قد قرر ليلة البارحة، سيذهب بالباص.

– من يدري!!…ربما أُصادِف راكباً ودوداً إلى جانبي فنتجاذب بعض حديث يكون خزين الذاكرة لساعات ما قبل العملية (قال في نفسه). إن صادفني مثل هذا الراكب لن أتردد كما كنت افعل سابقاً. سأعرض عليه صداقتي وسأعطيه رقم هاتفي. حبذا لو كان امرأة. . .

علّق الحقيبة فوق ظهره، ألقى نظرة أخيرة على غرفة الجلوس، قطع الكهرباء عن الشقة، تأكد أن مفاتيح البيت في جيبه. أقفل الباب. عن شماله ،كان جاره محنياً فوق التربة فوقف منتظراً حتى يرفع الرجل بصره عن الارض

“هالو” ، “غود مورننغ”

الابتسامة البلاستيكية الحائرة هي ذاتها . . . عشر سنوات ولم يزد ما بينهما على هذه ال “هالو” وال “غود مورننغ”، فالرجل لا يفهم الانكليزية وهو لا يفهم الصينية. انحنى فوق بوابة السور واستدار بنظره نحوه. ضم أصابعه وأشار الى صدره وقال I… go… hospital تطلع الرجل اليه ببلاهة. أعاد العبارة مرة ثانية. بتأن أكثر هذه المرة، ثم اتبعها بثالثة. تهلل وجه الرجل هذه المرة. ضم يديه إلى بعضهما، رفعهما محاذاة جبينه، انحنى قليلاً وقال: yes, yes sir…hospital وبين الاشارة والعبارة أفهمه أنه سيغيب ستة أسبابيع. استطاع أن ينقل له رغبته بان يسقي له شتول الزرع في غيابه. اطمأن من تعابير وجه الرجل الودودة أنه فهم وسيفعل. إطمأن على شجيرات الورد والغاردينيا والكامليا. تابع سيره ليأخذ باص 410 الذي سيوصله بعد 35 دقيقة بالتمام الى بوابة مستشفى بانكستاون.

سدني استراليا/ 2003