خارج السرب
لم يكن ينقصني إلا ان أضع حلقة في إحدى اذنيّ حتى أودي بها الى مستشفى الامراض العقلية او القلبية . . تجاوزت أسوأ مخاوفها. كسرت كل الاسوار التي كانت تحرص على أن تضعني بها على مدى عشر سنوات عمر مجيئنا الى هذه القارة. كانت تلوي شفتيها أشمئزازا وتضرب كفا بكف كلما راتني أخب حافيا بالجينز الممزق حول الركبتين وأسفل الالية, تقول:
ـ لم يعد ينتقصك إلا تاتو (وشم) هنا وهناك وتمسي من شذاذ الافاق المتشردين. اغرب عن وجهي قبل ان افقد اعصابي واحسب ربك ما خلقك . . .
وأنا بدوري لم أكن لأقيم وزنا لاعتراضاتها وانتقاداتها التي لا تنتهي, فهي لا تعجبها انكليزيتي الفظة التي تأكل نصف كل كلمة, ولا تسكعاتي جائبا الشوارع والازقة متباهيا بمهارتي في قيادة عجلة بدولابين ارفعها في بعض الاحيان على دولابها الخلفي دائرا دورات لولبية فتنهال علي الشتائم من المارة والسائقين عندما ادهمهم بانعطافة مفاجئة, ولا وانا ارتمي فوق سريري بثيابي الوسخة في حين ان قوانينها تمنع دخول غرفة النوم إلا بعد المرور بعمليات استحمام وتطهر بكل انواع المنظفات والعطورات. إلا ان أكثر ما كان يغيظها هي تلك الوقاحة التي أبديها تجاه زوج عمتي الذي تعارفوا على مناداته بالبروفسور. اقلد مشيته البطيئة شبه العرجاء , إنكليزيته شبه اللندنية التي جاءت معه من الوطن الام وهندامه الذي يذكر “بشارلي شابلن”.
ـ بربك أظهر احتراما لزوج عمتك. ان لم يكن من أجلي أنا فمن أجل والدك على الاقل
ـ البروفسور هه! ! . . . واروح أقلد لهجته الانكليزية الغريبة على مسمعنا وفوقيته فيما هو يغرق في الكنبة الوثيرة نافضا اطراف غليونه او منزلا نظارتيه الى طرف أنفه استعدادا لواحدة من تعليقاته التي لم تكن لتبهر إلا والديّ.
ـ البروفسور يا ولدي شخصية محترمة. هو الوحيد من كل جاليتنا استطاع ان يحافظ على مركزه السابق ويعمل باختصاصه. ابوك يا ولدي كان محاميا قد الدنيا وانظر ماذا يعمل الان! ! . . .
وإذ لا تلقى نصائحها اذنا مني, تستنجد بأبي
ـ بربك قل كلمة يا “رفيق”.
إلا ان “رفيق”, الغارق في إحباطاته, لا يعلق. فتنطلق عني إليه تلومه :
ـ انت لا يهمك كيف يطلع الاولاد: كل همّك الاثبات لمحدثيك انك كنت محاميا قد الدنيا والغربة أهانتك وأنزلتك عن عرشك. يا زوجي العزيز في هذه البلد لا احد يهتم للعلم والشهادات. المحامي اليوم يشتغل سائق تاكسي غدا لا لشيء ألا إذا ثبت له ان هذه الاخيرة تدر مالا أكثر. بربك قل لي هل كانت شهادة المحاماة التي فلقتنا بها تؤمن لنا الدخل الكافي لمصاريف البيت؟ ! . . . أشكر ربك. ما تربحه اليوم من المحل الصغير هذا يساوي ثلاثة اضعاف معاشك هناك
واعلق متخذا من صمت والدي شجاعة :
ـ برفسورك هذا طبل منفوخ, محنط من القرون الوسطى, موضة قديمة مثله مثل جرن الكبة الذي قضت عليه المولينكس. . . ماذا يعني بروفسور؟! . . . يحفظ شوية معلومات يبهرك بها. قريبا تلغي الانترنت دوره وينتهي متشردا يلقط رزقه كالمشردين في شوارع دارلنغ هاربر, او عازف عود مسترزق في محطات قطارات المدينة
ـ قلت لك تأدب يا عصام. ليتك تصير مثل البروفسور يوما. إعقل! . الى متى ستظل طائشا. ستقضي عليّ قلة أدبك و شيطناتك
. . . . . . .
لم تكن السيدة عذاب (وهو اسم امي), تعي انني في الخامسة عشرة, لم أطلق طفولتي نهائيا بعد. اقضي الساعات الطوال خلف الابواب المغلقة اتأمل بنرجسية هذه الطلة البهية التي تطالعني بها المرآة, وانني من خلال نظرات الاعجاب اكتشفت انني “شبوبية” لا باس بها, بل انني اكثر من ذلك . لقد اورثتني شعرا كستنائيا لماعا وانفا دقيقا, كما ورثت عن ابي هاتين العينين النجلاوين اللتين تشعان ذكاء وحياة، وقد زاد من غروري واعتدادي بنفسي كلمات الاطراء التي أتلقاها اينما حللت: الزميلات , المعلمات, البائعات على الكاونتر عند “تارغت” و”غريس برذرز”, زوار بيتنا في عطلة نهاية الاسبوع, عمتي جميلة التي لا تنفك تنقر الخشب كلما رأتني
ـ الله يحميه من العين. كل يوم يبدو اجمل من اليوم الذي سبقه . كله هيبة ورجولية
. . . . . . . . . .
خطوات وادلف الثامنة عشرة, وفي سنتي النهائية من عمر الدراسة. خفّت فيّ تلك الرعونة التي تكرهها والدتي وامسيت ابذل جهدا لاتصّرف بنبالة وشهامة كما يقولون في وطننا الام. أهرع لمساعدة جارتنا العجوز في حمل مشترياتها كلما رأيتها مثقلة بحملها. وإذا ما رايت رجلا خانته سيارته فحرنت في منتصف الطريق أهرع لمد يد المساعدة دون ان يكون لي اية مصلحة في ذلك. ولا اتورع عن الانخراط في مشاجرة قد تؤدي بي الى مخفر الشرطة او عيادة الطبيب إذا ما أساء احد هؤلاء المراهقين لفتاة او زهرة في الحديقة العامة. ولكنني من جهة أخرى بدأت احس ان شيئا ما مات في داخلي. لم يعد اي من تصرفاتي السابقة يغريني. أقضي الساعات ساهما. لم تعد الموسيقى تزعق من مذياع غرفتي. وافتقدتني عجلتي, فانا لا اتذكرها إلا لقضاء امر ما. حتى حبيبتي جولي لم تعد لتعني لي الكثير. صرت كلما ألقاها احس بالضجر. لا اجد ما اقوله لها. وإذا طلبت مني في عطلة نهاية الاسبوع الذهاب الى الديسكو تكون وكأنها تطلب مني تقطيع حطب او قص حشيش الحديقة في يوم كانوني قائظ. امسيت اشعر ان حبها يقيدني .
هذا الكلام الذي لا ينقطع عن المعدل اللائق . . . عن المستقبل. . . عن دخول الجامعة . . عن الاختصاصات . عن المواد التي تكسب درجات اكثر . . عن الدروس الخصوصية التي بدأ أبي يلوح بها. امور لا تعني لي شيئا.. . . أمسيت امضي معظم اوقاتي على الشرفة التي بناها والدي على غرار شرفاتنا في الوطن الام, الا انها لم تكن مسقوفة بل مفتوحة على العراء . من على هذه الشرفة كنت أرقب البيوت القرميدية نابتة كالفطر, السيارات المسرعة والمتباطئة, المراهقين العائدين سكارى ليلة كل جمعة يشتم واحدهم الاخر. الجيران يشيعون ضيوفهم بصخب لا يبالي بحرمة السكون الجليل . . . إنني لا امّت الى احد بصلة. أرقب النجوم، أحس بنفسي مأخوذا بهذه النقاط الضوئية اللامنتاهية. إنه لعالم بديع. كريات تحوم فوقي, تتحرك في حركات احتفالية منتظمة كانها متصلة بخطوط غير مرئية. هذه الحقول من النجوم التي كانت مجرد نقاط من ضوء ايام الطفولة كل ما فيها من جمال مختصر على الاشكال البديعة التي تنتظم بها, أمست الان حيزا لتساؤلات تفضي الى رؤى بعيدة غامضة.
ما انت يا عصام سوى نقطة تافهة في هذا الكون . . . ما هي قيمتك بالقياس الى هذا العالم الممتد الى ما لا نهاية؟! . . . بل ما هي قيمة البشرية كلها أمام عظمة هذا الوجود اللامتناهي؟! . . . الوظيفة, المركز الاجتماعي, الحب ,الولادة, الموت . . . ما هي بالقياس الى ما يدور في هذا الفلك العظيم؟! . . .
شيئا فشيئا كنت اعود الى حاضري. أعي العتمة المحيطة بي. أعي كتب الرياضيات والعلوم واللغة المركونة جانبا على الطاولة . . . امور لا اهمية لها. لا شيء من طموحات أمي كان قادرا ان يحرك فيّ حبا للانتماء الى حياة هؤلاء البشر التافهين . من أنا؟! . . . ما قيمتي في هذا الوجود؟! وماذا إذا اصبحت مهندسا او طبيبا وكسبت الاف الدولارات وملكت بيتا فخما في ال”درلنغ هاربر” او” شمالى سدني”! ! . . كله هراء . . . كلها فقاقيع صابون . كيف يسعد الناس بهذه الفقاقيع؟! ! . . .
تكاد السنة تكتمل وها انا أتم عامي الثامن عشر. أقامت والدتي حفلة للمناسبة بذلت كل ما في وسعها لجعلها حفلة يتكلم عنها الكبير والصغير . إستعارت بعض اواني الكريستال والفضة من عند الجيران, فرشت الطاولات بمفارش بيضاء لماعة, ونثرت شجرات الحديقة بفوانيس كهربائية مختلفة الالوان كتلك التي تزين بها شجرة الميلاد. استعادت كل ما كانت تتقنه من وصفات مطبخية ودعت كل معارفنا من ابناء الجالية. إلا ان صاحب العرس كان غريبا ذاهلا عن كل ما حوله . . . هدايا كثيرة فضضتها كما هي العادة ولكن بلا مبالاة أحرجت ابويّ إلا ان عمتي جميلة غمرتني بعد انصراف الجموع. لم ألحظ ان عمتي حتى حينه لم تكن قد قدمت لي اي هدية. . . حوطت كتفي بيدهاالغضة القصيرة, تطاولت هي والكعب العالي الذي ترتديه للوصول الى هذين الكتفين. قادتني الى غرفتي واقفلت الباب وراءها
ـ هه عصام! ! . . . آن لك ان تعرف شيئا عن جذورك. لا ترمقني بهذه النظرة الهازئة . عندنا ما يمكن ان تفخر به
وقلت في سري: جذور! قيم! مباهاة! . . . كلها امور تافهة. ما انا وهذه الجذور إلا نقطة عتمة في هذا العالم اللامنتاهي . . لم تأهبه عمتي لصمتي ولا مبالاتي وراحت تفك شريط الزينة عن رزمة موضوعة على الطاولة امامي , هذه ملحمة كلكامش يا حبيبي . دخت حتى عثرت عليها كاملة وانيقة تليق بالشباب امثالك. إقرأها يا ولدي في ساعات فراغك. إنها تحفة فنية تجلب لك المتعة وراحة النفس
ـ كلكامش؟ ! . . . من قال لها ان كلكامش يهمني او ان القراءة تهمني. . . إلا ان حبي واحترامي لها جعلاني أتظاهر ببعض الاهتمام
بقيت اجزاء الملحمة موضوعة لاشهر على مكتبتي الى ان دفعني الفضول او الملل, لا استطيع ان أحدد, الى تقليب صفحاتها. توقفت عند بعض الرسومات الفنية التي استعان بها المترجم, وشدني الفضول لقراءة بعض الفقرات من هنا وهناك ثم رايت نفسي منسجما أقرأ الصفحات ثم أعود الى هذا السطر او ذاك لأتاكد من معانيه. عايشت كلكامش. دست معه على الشوك. تألمت لالامه. عشت تمزقه وحيرته وتساءلت مثله عن معنى الخلود والموت والحياة
.صرت انا كلكامش صرت انكيدو الحائر بين حيوانيته وبشريته. صرت حفنة الطين التي القتها اورور في البرية. بل صرت كاتب النقوش على ألواح الطين. . .
ساءني ان تخرج والدتي بعد اجتماعها مع ما يسمونه في هذه البلاد career adviser مطأطئة الرأس مهمومة فقد قال:
ـ باختصار مسز “رفيك”, انا آسف لاقول لك ليس بمستطاع “إيسام” ان يصير مهندسا او طبيبا. . . رأسه مشغول بأمور ليست من اختصاص منهاجنا