شيء يشبه “الاخضر والاحمر

شيء يشبه “الاخضر والاحمر”


قط أو قطة لست أدري. ما أعرفه هو أنه كان يتخذ صبيحة كل يوم من سياج حديقتي “قدومية” يعبر من خلالها الى الجهة المقابلة من الحي. ولأصدقك القول، فإن مشاهدتي له كانت تتم دائما في صباحات النهار. كان هراً ككل الهررة المدللة في هذه البلاد. شعره ناعم براق وعيناه لامعتان هادئتان. كانت قفزاته سريعة ولو أنها لا تخلومن بعض الحذر، وكان يهمّ راكضا قاطعاً الطريق الى الجهة الاخرى. قد يحلو لي في بعض الاحيان ان أشاكسه، ففي اعماقي حسد وغيرة من قطط وكلاب هذه البلاد لأسباب لن أذكرها ففهمكَ/كِ كفاية.

أعترض طريقه وأحدق في عينيه فلا تخيفه نظراتي ولا تجعله يتراجع الى الوراء، بل كان يقوّس ظهره وينتصب على قوائمه الاربع ويحدق بي تحديقة حرت في تفسيرها، أهي تحد، تحفز لصراع، أم رجاء؟ غريبة هي أعين الهررة!. . .لم انتبه من قبل لما فيها من عمق. ترى ألهذا قالوا ان الارواح الشريرة تسكن هذه العيون؟ لم اشعر بالشر في عيني قطي هذا. احسست بكل شيء إلا الشر. لم تكن مشاكستي له لتطول فقد كنت اتراجع امام إصراره فأخفض بصري وأدير له ظهري مفسحة له إكمال طريقه. لطالما فكرت وقلت لجليسي:

– لماذا يصر هذا الهر على القفز فوق سور الحديقة فبإمكانه أن يحاذيه . . . وأين يذهب؟ ترى هل هو عائد من غزوة ليلية أم متجه إلى أخرى صباحية؟

سيرة الهر كانت ترافق قهوتنا الصباحية. استراحة قصيرة من متابعة نقاشات “الجزيرة” التي تغيظ اكثر مما تثقف. ضبطني صغيري أكثر من مرة احكي بتحبب عن الهر، فانتهزها فرصة ليطلب مني موافقة على اقتناء هر صغير. صرخت غاضبة : “كله إلا الهررة” وسخين وبعيونهم سحر وشر

ـ ولكن. . .

ـ بدون ولكن! بكره بس تتزوج جيب على بيتك مئة هر . أما هون لا .

يتمتم لاعنا دكتاتوريتي، مهدداً أنه سيترك البيت في اول يوم يتم فيه السادسة عشرة. أشعر بوخزة. أتكون منافستي هرة؟ !. .

الجزيرة تعرض صوراً من فلسطين. الجرافات تقتلع أشجار الزيتون. رغم اني تربيت بالمدينة ولا أعرف عن شجر الزيتون إلا لوعة أمي على تركه مثقلاً بحمله قبل ما يقارب الستين عاماً، إلا أنني احسست وقلت لشريك قهوتي:

– أحس كأن هذه “البولدوزورات” تمشي على جسدي وتقطع أوصالي. يلوي رقبته حسرة. يهم بالكلام ولا يتكلم. أعرف ما يريد أن يقول. أعرف أنه يشعر بالذنب لأنه هنا. يتمنى أن يكون هناك. سكبت بعض القهوة في فنجانه لأحول انتباهه. كانت عيناه تلتمع بدمعة مكابرة. رشف قهوته وقال:

– “القواد” على شو بعدو بيفاوض؟

دخل الصغير يجفف يديه بحماس بمنشفة صغيرة: خالي سيأخذني معه الى “تاون هول” سأشوف حنان عشراوي. عظيمة هاي المرة لو كان في مثلها كتير كنا “ربحنا” فلسطين

ـ سكّر تِمّك! انت شو بيعرفك بالسياسة؟ لو كانت القصة قصة حكي كنا استرجعنا الأندلس مش بس فلسطين.

ـ dad!!….. she is great!….

– “الغريت” هناك مش ب”التاون هول” “تَبْعَتَكّ!

هذا الحوار السفسطائي يكاد يكون خبزنا اليومي. أقول منتقدة:

– ما معنى أن تعيش في سدني وقلبك وعقلك هناك!..

يصمت. وأسمعه يهمهم بعد ان أكون قد تواريت عن ناظريه:

– “… كأنك مش عارفة!. . . ساقونا بالشاروط مثل الجاج: بيت بيت بيت… حتى بتنا. . .”

كنت اهرب الى الشرفة الشرقية. أزيز الباب نبَّه صديقي الهر العسلي اللون، شعرت بذلك من ارتعاشة ذيله. لم يلتفت صوبي كأنه منهمك بأمر ما!. . . حجبه ظل شجرة السرو عن ناظري وانهمكت أراقب تعسر نمو شجيرات الغاردينيا رغم كل الاهتمام والمغذيات التي رفدتها بها. سمعت صوت ارتطام. . . تلفت. حركة الشارع عادية، سيارة صغيرة زرقاء تعبر الشارع. الشارع عريض وشبه خالٍ. لا مجال لارتطامها بأي شيء. ما سبب هذا الصوت؟ كدت أتجاهل الامر فقد بلدت سمعي معايشة خمسة عشر سنة من حرب البيروتين ولكن فضولاً غير عادي دفعني الى الزاوية الاخرى من الشرفة. من هناك، من تلك الزاوية استيقظت في النفس انفعالات حرصت سنين على كبتها. رأيت هري العزيز ملقى فوق الاسفلت ينتفض وينتفض ثم يهدأ، وكان هر آخر يقطع الشارع من الجهة المقابلة يقعد فوق رأسه وينوح. كان نواحه لا يختلف بشيء عن نواح امي يوم جاؤوا بأبي شهيدا، بل ضحية قبل عشرين سنة. لا أدري لماذا لمعت في رأسي قصة غسان كنفاني “الاخضر والاحمر”. . .

سدني استراليا

أيار/ مايو 2003