بقع فوق أفكار نعمان

بقع فوق أفكار نعمان


نعمان لا يحب أزيز الطائرات الراعد. عندما كان صغيراً كان يهرع مختبئاً بثياب أمه كلما مرت دراجة نارية “مقرقعة”، وكان أوّل من يتكوم في زاوية آمنة عندما يداهم حيهّم قصف مفاجئ.

نعمان لا يحب أن يموت، ليس لأنه يحب الحياة فقط، بل لأن موته سيحزن أمه كثيرا. عندما خُطِف أبوه ولم يعد، ظلت لسنوات تبكي. تسربلت بالسواد. وضعت منديلا أسود فوق رأسها وبدأت تهرم بسرعة حتى أنها لم تعد تحبهم. لم تعد تدلـله كما كانت تفعل من قبل ولم تعد تصنع له الأطباق التي يحبها. صارت مثل خادمة أم بشير تطبخ وتضع الأكل على الطاولة دون تعليق. دون ان ترجوه او ترجو عامر ليزيد. ظلت لسنوات لا تأكل حبة شوكولاته وحرّمت صنع الكاتو والكنافة في البيت. صحيح أنه كان يشتري كنافة وكاتو من عند العْرَيسي ولكن ما تصنعه أمه أطيب. اكثر من مرة خبأ قالب الكاتوه كي لا تقدمه أمه لضيوفها الذين يأتون على غفلة. كانت تقرص أذنه عندما يذهب الضيوف وتقول بلهجة تصطنع الغضب:

– إصحى تعيدها وإلا. . .

– وإلا ماذا!.(يتمتم في سره)

_ أأأ .. أقول لعامر

عزّة ايضا ستحزن. ولكن حزنها لن يكون كحزن أمه. ستندم على كل المشاجرات التي كانت تفتعلها معه. ستندم لأنها ظلمته يوم اشتكته لعامر وقالت: نعمان يدخن. كان عامر قاسياً معه يومها. قطع عنه المصروف. بقي لأسابيع يأكل سندويشته ناشفة ولا شفة ببسي. عزّة تغيرت كثيراً بعد ان تهجّروا من بيتهم الريفي شرقي بيروت وسكنوا في برج البراجنة. صارت تصرخ كلما دخل عليها غرفتها “إطلع برّه”. صارت تقضي وقتها بقراءة مجلات تخفيها تحت الفراش عندما تدخل أمها الغرفة فجأة. يوم رمى لها المجلات عن الشرفة الى الشارع قالت له: “إنشالله تموت” (ستتذكر هذا وتبكي)

لا يستطيع ان يتصور مدى حزن رنده، ولكنها حتماً ستندم لأنها كانت دائما تتباهى عليه بتفوقها في الدراسة ولا تكف عن ترديد: “طالع حمار لا تنفع لأي شي. . . روح كب حالك بالبحر” . صحيح أنه كان يكرهها لذلك، ولكنه كان يتباهى بها كلما سأله معلم جديد عن قرابته برنده. كان ينفخ صدره ويقول بالفم الملآن:

– رنده اختي.

ولكن رنده مغرورة. . . دائماً تهزئه وتقول:

– أنا أخجل أن أقول هذا التيس الكسلان أخي.

ستندم على كل كلمة جارحة قالتها في حقه.

قد لا يحزن عامر كثيراً. موته سيخفف بعض مسؤولياته. عامر هذا عواطفه جامدة. . . في هذه السن وليس له حبيبة أو خطيبة. لا يعرف إلا الواجب. يعمل مثل الآلة. يصرف على البيت منذ استشهاد والده ولكنه يعيش في صومعته بعيداً عن همومهم الأخرى. لم يسأله مرة عن أحواله الغرامية ولا علمّه، كما يفعل الإخوة الكبار عادة، كيف يتعامل مع حاجاته الجنسية. هو لا يعرف عن أحلامه وطموحاته شيئا. لم يغضب يوم قال له أنه تطوع مع الشباب وأنه ذاهب معهم الى حي السلم ولم يشد على يده مشجعاً. وقف مثل “ابو الهول”

تساءل!. . . هل ستبوح إبتسام بما كان بيننا؟ ! ! . . هل ستحضر جنازتي ؟! . هل ستجلس الى جانب أمي ورندة وعزّة تتقبل التعازي في موتي ؟ ! . . . لا يظن ذلك. إبتسام تخاف من أخيها عليّ . كثيراً ما كانت تقول له مازحة كلما جاء يضمها ويقبلها “عليّ فوق الشجرة” . . .

سوف يصّلون على جثمانه في كنيسة مار بطرس وبولس في الحمرا. وسيقول أبو ماهر كلمات جميلة في تأبينه. عند كل وقفة له ستجهش أمه بالبكاء ولكنهم سيدفنونه في مقبرة الشهداء. أبو عمار قال: كل الشهداء يدفنون في مقبرة الشهداء. إسلام، مسيحية كلهم شهداء. أبو عمار تحدى رجال الدين. قال لهم:

– هؤلاء صاروا مسلمين بالشهادة.

هو يحب أبو عمار ولكنه يسكت عندما ينتقده ويشتمه كوادر الجبهة الشعبية كي لا يبدو ساذجاً لا يفهم بالسياسة

سيُلفّ النعش بعلم فلسطين وسيطلق رفاقه الرصاص تحية للشهيد البطل. ستكون الكنيسة مليئة برفاقه المسلمين الذين سيسخرون من هذه الكلمات التي تقال بلغة لا يعرفون ما هي. قد يتضايق بعضهم من رائحة البخور القوية ويترك الكنيسة بسبب تلك الرائحة. . . قد يسخر عماد ورسمي ومصطفى من هذه الشموع الصفراء الكبيرة المضاءة في عز النهار. سيقول عماد:

– شو هالبطر!…. الناس محروق دينها بالعتمة وهم يبذرون الشموع في عز النهار… سيقول رسمي:

تعالوا نسرق هذه الشموع، كل واحدة منها تكفي مؤونة الاضاءة لمدة شهر.

حتماَ سيصمت مصطفى، فالعلمانية لم تتغلغلل عميقاً في عروقه بعد.

عندما سيقومون بحمل النعش ستزداد الشهقات وسيرتفع النحيب: ستصرخ أمه:

– مع السلامة يا حبيبي يا نعمان. سلّم على أبوك. وربما تغيب عن الوعي. قد تطلق أم جميل زغرودة مفاجئة كما تفعل دائما، وقد يتبعها بعض الرفاق بانشودة “يا ام الشهيد زغردي كل الاولاد اولادكي . . . ”

كم هو جميل ومحزن موت الشهيد! . كم هي جميلة كلمات التأبين!. كم هي جميلة اللوحة الرخامية البيضاء المكتوب عليها اسمه وتاريخ ميلاده وعبارة استشهد دفاعاً عن بيروت المقاومة بتاريخ . . . . 1982

أحس أنه على حافة البكاء، لا بسبب ما سيصير اليه بل بسبب هذا الشجن الجميل والحزين كالموسيقى.

تساءل! .. لو أنهم علموا ما كان يجول في فكره من خواطر بين الحين والاخر، هل كانوا سيظلون يعتبرونه شهيداَ؟!. لو علموا أنه في بعض الأحيان كان يندم على هذا التطوع وعندما يشتد الخطر يتمنى أن تنتهي الحرب حتى وإن لم تنتصر الثورة. لو علموا أنه تظاهر بالمرض ليلة البارحة حتى لا يشارك بالهجوم على مثلث خلده الذي قام بالنيابة عنه رفيقه هاني واستشهد خلاله. لو علموا انه كان يحب ان يتفرج على صور النساء العاريات ويقرأ النكات الجنسية اكثر مما يحب قراءة كتب ابو ابراهيم. لو علموا انه كان يبخل عن شراء مجلة الهدف حتى يوفر ثمنها ويشتري مجلة “بلاي بوي”!

سُرَّ نعمان لأن الأفكار ليست كالثياب فهي لا تظهر البقع القذرة التي تلطخها.

عندما جاء ابو مجاهد وبرفقته ثلاثة من رفاق نعمان بثياب مرقطة، لم تنهض أم عامر متلهفة لترحب أو تسأل عن نعمان بل قالت وعيناها مطرقتان الى الارض:

ـ لا ضرورة للكلام. . . لقد زارني ليلة البارحة وقال لي: وداعاً يا أُم عامر. وصّاني أللّا أحزن، ولا ألبس السواد، ولا أتوقف عن خبز الكنافة. قال: إن حزني سيؤلمه ويجعل موته حقيقياً. . .

سدني أستراليا/ 2003